هناك شعراءُ يكتبون عن المنفى، وهناك آخرون يعيشونه — يجعلونه لغةً للنجاة، لا جرحًا فحسب.
أمل الجبوري وستيفن واطس من سلالة هؤلاء الذين حوّلوا الغربة إلى نحوٍ جديدٍ للحياة، وإلى وطنٍ من الكلمات.
في قصيدتها «ثم نجوت»، تكتب الجبوري من قلب الحريق؛ من الداخل، لا من مسافة الأمان. هناك حيث تنهار الثقة وتُمحى الحدود بين الشرق والغرب، تُصبح الخيانةُ كونيةً، ويصير الصندوق الأسود أرشيفَ الذاكرة الذي تحفظ فيه الشاعرة أنفاسها الأخيرة. ومع ذلك، فهي تنجو بالكلمة وحدها. فالشعر عندها ليس زخرفًا للقول، بل جهاز تنفّسٍ اصطناعيّ للحياة.
أما ستيفن واطس، ابنُ لندن الشرقية، فيمشي على حافة المنفى بخفّةِ الإصغاء. في كتابه الجمهوريات يصغي لأصوات المهاجرين واللاجئين، كأنّه يترجم أنينَ الأرض إلى إنجليزيةٍ شفّافة. لغتُه همسٌ إنسانيّ، وبيتُه الأوّل هو التعدّد. ما تصرخ به الجبوري يهمسه هو: كلاهما يُنطق بالجرح ذاته — أن تكون إنسانًا هو أن تكون مترجَمًا على الدوام.
تذهب الجبوري أبعدَ من التجربة إلى التنظير في «إكسيلزموس»، حيث المنفى يتحوّل إلى فلسفةٍ للشعر ذاته. تفضح تواطؤ الجوائز والنشر والإعلام، وتكشف كيف صارت القصيدة أداةً في يد السياسة، وكيف صار الشاعر شاهدًا ومخبرًا في آن. هنا يصبح الخلاص كتابةً ضدّ الكتابة، ويصبح الشعر مرآةً لذاته المكسورة.
يقاوم واطس هذا التلوث بلغةٍ نقيّةٍ متقشفة، تُعيد المعنى إلى البساطة الأولى. فكما تحرق الجبوري لتضيء، يُصغي واطس ليشفي. الأولَى نارٌ، والآخرُ هواء، وفي اتحادهما تكتمل دورةُ البقاء.
كلاهما ينسف فكرةَ «الوطن» بمعناها التقليدي. فالوطن عند الجبوري هو الجملة التي تنقذها، وعند واطس هو الإصغاء الذي يلغـي الحدود. المنفى عندهما ليس نفيًا بل كشفٌ، وحين يفقد الإنسان كلَّ شيء، يبدأ بسماع الجميع.
إنّ لقاءهما يقوم على فنّ الصمود. فـ«ثم نجوت» سيرةُ مقاومةٍ أخلاقية، ورحلات عبر النفس لوَطس سيرةُ لطفٍ إنساني. كلاهما يُعيد إلى المنفى وجهه البشري، وينقذه من صرامة الأخبار والسياسة. فالمنفى عندهما ليس استعارة، بل فسيولوجيا: طريقةُ الجسد في التنفّس بلا هواء.
وفي زمنٍ تُستعمل فيه القصيدةُ سلعةً أو شعارًا، يُعيد هذان الشاعران إليها طهارتها المستحيلة. تقول الجبوري: «صار الشعر كلَّ شيءٍ ولكنه لا شيء»، غير أنّ هذا «اللاشيء» هو جوهرُ الوجود؛ جمرةُ المعنى التي لا تنطفئ.
تنتهي الجبوري إلى يقينٍ لا إلى انتصار: الحريةُ الموعودةُ في الغرب ليست إلا سجنًا بأقنعةٍ جديدة. أما واطس فيعلّمنا أنّ البقاء ليس غلبة، بل عملُ رقةٍ مستمرّ؛ شجاعةُ الانفتاح في وجه القسوة.
إيمانهما المشترك يمكن اختصاره هكذا: أن تنجو هو أن تواصل الغناء، حتى لو لم يُصغِ أحد؛ وأن تكتب هو أن تتذكّر من لم يُسمَع.
في التقاء صوتيهما يتحوّل المنفى من عقوبةٍ إلى حجٍّ، من فقدانٍ إلى بصيرة.
وهكذا، تبقى القصيدةُ لا كتمثالٍ للذاكرة، بل كأنفاسٍ متواصلة — تحفظ ما تبقّى من إنسانيتنا الممكنة